نشر بتاريخ: 2022/06/26 ( آخر تحديث: 2022/06/26 الساعة: 13:52 )
عيسى قراقع

راديو الشباب  

كباسيل جمع كبسولة، عنوان الدراسة الجديدة للكاتب والصحفي والاسير المحرر عمر نزال، وهي ‏دراسة خرجت في كبسولة بعد ان كتبت فصولها داخل السجن ، ربما الكبسولة هي ابداع فلسطيني ‏بامتياز ، ورق شفاف وناعم يكتب الاسير عليه ويلفه بشكل متقن ، تحفظ بأماكن سرية في الجسم ‏وتهرب الى الخارج ، وهذه الكباسيل كانت الكنز الثقافي والفكري والرسل التي حملت افكار ومواقف ‏واراء وبيانات الاسرى ، ولعبت دورا كبيرا في عملية التواصل داخل السجون وخارجها .‏

‏ من يحمل كبسولة داخل السجن كأنه يحمل قنبلة ، يتعرض للملاحقة والضرب والعزل والمحاكمة اذا ما ‏القي القبض عليه متلبسا بحمل كبسولة ، تحولت الكباسيل الى شهادات ووثائق وحملت في طياتها ادبا ‏وكنوزا ثقافية من دراسات ودوواين شعر وروايات وخواطر ومسرحيات ورسائل وغيرها ، ووصل ‏الامر أن تحمل الكباسيل نطف الحياة ، حيوانات منوية خرجت من الظلمات الى النور ليولد الاولاد ‏والبنات وتتكون العائلات في أكبر معجزة انسانية .‏

للكباسيل حكاية طويلة منذ بداية الاحتلال الاسرائيلي ، هي رمز لإصرار الاسرى على التواصل وكسر ‏عزلة السجن وجنون الفراغ ، وقد استعرضت دراسة الكاتب عمر نزال اكثر من 20 اسلوبا للتواصل ‏بين الاسرى مع بعضهم البعض ومع العالم الخارجي بطرق مواربة وسرية ، وكان ذلك تحديا لمنظومة ‏القمع الاسرائيلية والاجراءات الوحشية التي تطبق بحق الاسرى منذ ان كان القلم والكتاب والورقة ‏والصحيفة والمذياع من الممنوعات .‏

الكبسولة هي التي اشعلت الاضرابات والمواجهات داخل السجون وانتزعت الحقوق الانسانية ‏والمعيشية للمعتقلين ، والكبسولة هي التي نظمت حياة الاسرى في وحدة جماعية وسلطة ثورية بديلة ‏لسلطة السجان ، والكبسولة هي المرشد والمعلم في مدرسة واكاديمية السجن وانتظام الحياة الثقافة ‏وتخريج الطاقات والكادرات المبدعة ، والكبسولة هي التي حملت مشاعر الحب والحنين والاشواق ‏للأهل والاحباء ورممت المسافة بين البعيد والقريب ، كسرت سياسة تجريد الانسان من انسانيته ‏وهويته الوطنية ، الكبسولة هي الرواية الفلسطينية المضادة لرواية الاحتلال ، المحكمة الانسانية ‏الفكرية والوجدانية التي تحاكم جرائم المحتلين خلف القضبان ، انها توثق الشجاعة والكرامة والبطولات ‏والاصرار العنيد على الحرية والحياة .‏

دراسة الاسير والصحفي عمر نزال كشفت أهمية الاتصال والتواصل كحاجة انسانية واجتماعية وثقافية ‏ونفسية وتربوية للمعتقلين ، واستغلال ادارة السجون لهذه الحاجات لجعل السجن ليس فقط مجرد ‏احتجاز وانما لتقويض وتهديم الحياة البشرية للأسرى ،واعدام الروح والنفس والمشاعر بالعزل الزماني ‏والمكاني عن الحياة والمجتمع ، فالكبسولة تحدت نظام ادارة السجون الذي يهدف الى الموت الاجتماعي ‏والانفعالي للأسرى والتسبب بالألم النفسي والاحساس بالعدم واللايقين والسبات الثقافي والاغتراب ‏والانقطاع عن تطورات الحياة . ‏

الكبسولة المحشوة بمدارك العقل ونبضات القلب تحدت نظام التدجين وصهر الوعي وسياسة خلق ‏مجتمع اسرى انضباطي وبليد من خلال السيطرة والتحكم بوسائل الاعلام وتجفيف مصادر المعرفة ‏وتقنين وصول المعلومات الى الاسرى من اجل صنع الاسير الجديد بالتأهيل والاعداد واعادة هندسة ‏عقله بنشر ثقافة الاستسلام وغسل الادمغة وافراغها من المحتوى الوطني .‏

الكبسولة فيها روح وبارود انساني متمردة عصية مصرة على التحليق في الفضاء واخراج الاسرى من ‏خلف الجدران الى الرأي العام والمحاكم الدولية وكافة مؤسسات حقوق الانسان ، الكبسولة مصرة ان ‏يكون للأسرى مقعد جامعي وشهادة وكتاب ورواية واغنية وقصيدة ،ليبقى الاسير حاضرا ومشاركا وهو ‏العنوان في كل مكان ، الكبسولة لاهوت الحرية والحجاب الذي يكشف الغيب لكل المعذبين والمقهورين ‏والرازحين تحت نير الظلم والاحتلال .‏

ما يميز دراسة كباسيل للكاتب عمر نزال انها اعدت من خلال استمارة بحث ميداني وزعت على ‏الاسرى في سجن عوفر خلال وجود الكاتب في السجن في الفترة الواقعة بين عامي (2016-2017) ‏وقد استخرجت منها عينة عشوائية منتظمة من 53 اسيرا اجابوا على اسئلة الاستمارة حول علاقتهم ‏بوسائل الاعلام والاتصال وكيفية تعاملهم مع مضامينها ، ومدى اهتمامهم بها وتأثيراتها المختلفة عليهم ، ‏وقد عزز الكاتب دراسته بمقابلات مع اسرى محررين ومراجع وابحاث ذات صلة . ‏

كباسيل هي الدراسة الاولى التي تركز بشكل خاص على جانب التواصل والاتصال بين الاسرى ‏ووسائل الاعلام بأشكالها المتعددة ، وما يعطيها الاهمية انها دراسة علمية وبحثية ونقدية سلطت الضوء ‏على واقع الاسرى الحالي بعد مرحلة اتفاقيات اوسلو وفي ظل الانقسام الفلسطيني الفلسطيني وغياب ‏الافق السياسي وتفاقم معاناة الاسرى في السجون .‏

ما لفت انتباهي هي النتائج الخطيرة التي توصلت اليها الدراسة ، فالكاتب عمر نزال والمخضرم في ‏تجربته الاعتقالية يقرع الجرس عندما يعلن ان اكثر من 50% من الاسرى يقضون أكثر من 15 ساعة ‏اسبوعيا في التسلية والترفيه مع وجود فوارق بسيطة بين فصيل واخر ، وأن 36%من الاسرى في ‏مرحلة التعليم الاساسي يهدرون اكثر من 21 ساعة في التسلية وليس في التعلم وصقل الوعي ‏والحصول على المعرفة والمعلومات والأخبار ، فحسب اعتقاد الكاتب أن هذا لا يتفق مع ما ذهب اليه ‏قادة الحركة الاسيرة الذين يؤكدون دائما على اهمية وسائل الاعلام كونها مصدرا للمعرفة والاخبار .‏

الكاتب يطلب من قادة الحركة الاسيرة دراسة هذه الاستنتاجات المتعلقة بتعامل الاسرى مع وسائل ‏الاعلام والبحث عن السبل الكفيلة لتحقيق تعاطي أكثر فائدة وايجابية تسهم في تحصين الاسرى من ‏التأثيرات السلبية لوسائل الاعلام وإعادة تنظيم الحياة التربوية والثقافية للأسرى بطرق تنمي لديهم ‏الوعي التحرري .‏

المفارقة في الدراسة التي تحتاج الى وقفة جدية هي انه في الوقت الذي لم تكن وسائل الاعلام متاحة ‏للأسرى ، وتمارس بحقهم سياسة الطمس والعزل والتجهيل الثقافي والفكري والحرمان ، استطاع ‏الاسرى ان ينتزعوا بنضالاتهم وابداعاتهم انجازات كثيرة على صعيد الاتصال والتواصل ويؤسسوا ‏سلطة ثورية مضادة لسلطة السجون ، بينما في الوقت الراهن حيث وسائل الاعلام والاتصال متاحة ‏بنسبة كبيرة ويفترض استثمارها من اجل التنمية الثقافية للأسرى وتعميق الوعي الوطني نجد التراجع ‏والتشرذم وغياب الوحدة الوطنية والنكوص عن الاهتمام بالثقافة والقيم الوطنية الجامعة .‏

كباسيل دراسة تحذر من مخطط سياسي صهيوني يطبق على الاسرى في السجون ، الرفاهية الشكلية ‏والامتيازات والوفرة المادية اصبحت جزءا من مقومات السيطرة والالهاء في السجون على حساب ‏القضايا الوطنية ، السيطرة على الاسرى كرموز لحركة التحرر الوطني لم يعد من خلال سلاسل الحديد ‏وانما عن طريق افكارهم ونمط حياتهم واغراقهم في المصالح الفردية والجهوية والشللية . ‏

كباسيل دراسة كأنها تطلب من كل السياسيين والباحثين ومن كل القادة والمسؤولين ان يفتحوا كباسيل ‏الشهداء والاسرى علي الجعفري واسحاق مراغة وقاسم ابو عكر وميسرة أبو حمدية وفاضل يونس ‏وحافظ ابو عباية ومعين بسيسو وتيريز هلسة وغيرهم الكثيرون ليقرأوا ما كتبه الاسرى : ‏

لن نتوب عن احلامنا مهما تكرر انكسارها .‏