عباس.. من مركز الإجماع إلى التقاطعات
نشر بتاريخ: 2022/06/19 ( آخر تحديث: 2024/04/19 الساعة: 18:37 )

 

في تاريخ الزعامات الفلسطينية، ومنذ نشوء القضية التي امتدّ عمرها على قرنين من الزمن، احتلّ المركز الأوّل أربعة زعماء... الحاج أمين الحسيني، وأحمد الشقيري، وياسر عرفات، وحتى الآن.. محمود عباس.

الثلاثة الأُوَل، كلّ واحد منهم أتت به معادلة، وكان لكلّ واحد أنصارٌ ومعارضون. اثنان غادرا المسرح السياسي بفعل الانتهاء الموضوعي للدور، وهما الحسيني والشقيري، والثالث عرفات الذي غادر بفعل الموت، بعد تربّع على المركز الأول دام عقوداً، تميّزت فيها زعامته بتوازنات داخلية وإقليمية ودولية، عملت لمصلحته في معظمها، فكان بمنزلة ضرورة لكلّ المهتمّين بالقضية، وخصوصاً أولئك الذين لا يحبّون رؤية فراغ في سدّة الزعامة الفلسطينية.

كان أوّل تحدٍّ واجهه عباس هو النموّ الفلكي غير المحسوب بدقّة للإسلام السياسي الذي أشهر تطلّعاته ليس لتطوير نفوذه وحسب وإنّما لفرض سيطرته على الوضع الفلسطيني كلّه.

غير أنّ هذه التوازنات التي أطالت عمر زعامته لم تكن تخلو من حروب طاحنة، معظمها إن لم نقُل كلّها كانت لترويض الرجل ودمجه في الأجندات، فكان هنالك مَن يريده رقماً يدور في فلكه، وهناك مَن أراده سنداً لأجندته وسدّاً واقياً أمام خصومه، وهناك مَن كان يضيق ذرعاً بتمرّداته على المعادلات السائدة ومغالاته في رفع شعار القرار المستقلّ وسعيه الفعّال إلى حماية هذا القرار. وذلك غير الدور الإسرائيلي، إذ إنّ هنالك انقساماً على كيفيّة التعامل معه، فمعسكر يفضّل العمل الجراحي لاستئصاله، ومعسكر مقابل يفضّل مدّ الجسور معه سرّاً أو علناً لعلّه من خلال نفوذه الواسع والعميق في الواقع الفلسطيني، وحتى الإقليمي والدولي، يقود تسوية مريحة لإسرائيل كتلك التي أنتجتها عمليّة أوسلو.

تغييب عرفات

كلّ المعارك التي وقعت لترويض عرفات وتدجين قدراته لم تصل إلى نتائج نهائية حاسمة ليس بفعل قوّة خارقة يتمتّع بها، بل بفعل التناقضات القائمة في المعسكرات المؤثّرة في السياسة الشرق أوسطية التي كانت تشكّل رئات تنفُّس وحياة لياسر عرفات. لا تمنع عنه المعارك، لكنّها تمنع الإقصاء وإنهاء الدور.

غاب عرفات عن المشهد وما زال العالم يتجادل: هل غاب بفعل القضاء والقدر أم غُيّب بفعل الحاجة إلى غيابه أكثر من الحاجة إلى حضوره؟ وعلى الرغم من أنّ الجدل سيظلّ قائماً إلى ما لا نهاية، إلا أنّ الحقيقة الأهمّ من ذلك أنّ الرجل غاب وانتهى الأمر.

بديهيّ أن يكون خليفته محمود عباس بالذات، فمَن غيره يملك شرعيّة وإمكانيّة مواصلة تجربة أوسلو، وهذه المرّة من موقع صاحب قرار. وهنا اجتمع الخصوم والأصدقاء على الترحيب بالرجل والرهان على قدرته في تحقيق معادلة مفادها... ما لم يستطِعه أو يُرِده عرفات فإنّ مهندس أوسلو كفيل بفعله.

رجل التقاطعات

وهنا بدأ التحوّل في وضع الرجل كمركز إجماع أملاه فراغ غياب عرفات إلى مركز تقاطعات حادّة بحيث إنّ ما كان عاملاً مساعداً أضحى عبئاً ثقيلاً على الرجل. ذلك أنّ الذين رشّحوه ودعموه كلّ منهم فعل ذلك أو راهن على أمر مختلف عن غيره.

كان أوّل تحدٍّ واجهه عباس هو النموّ الفلكي غير المحسوب بدقّة للإسلام السياسي الذي أشهر تطلّعاته ليس لتطوير نفوذه وحسب وإنّما لفرض سيطرته على الوضع الفلسطيني كلّه. كان ذلك مستتراً في زمن عرفات، إلا أنّه ظهر بوضوح في زمن عباس، وهذا فرض رؤية مختلفة للرجل من قبل كلّ المهتمّين بالشأن الفلسطيني.

فهو بالنسبة إلى الأمريكيين ليس كما كان في البداية منقذاً لمشروع سلام تاريخي رعوه وأنفقوا عليه، بل مشروع صدّ للإسلام السياسي ممثّلاً بحماس ومَن معها. وهنا نتّحدت الرؤية بين أميركا وإسرائيل. وكان ذلك كفيلاً بإضعاف الدور الأوروبي الضعيف أصلاً، وفوق ذلك حلّ الربيع العربي الذي أنتج مجموعة قضايا أكثر سخونةً من القضية المركزية وأكثر إلحاحاً في أولويّات المعالجة.

كلّ ذلك هجم على رئاسة عباس بلا هوادة... إذاً المجال الحيوي للسياسة السلمية التي راهن العالم على مهندس أوسلو كي يُعيد فرضها قد تبدّد، أو بتعبير أدقّ تحوّلت أجندته من السعي إلى حلّ القضية إلى الاكتفاء بإدارتها. وهذا ما وضع الرئيس عباس داخل شبكة تقاطعات حادّة داخلية وإقليمية ودولية. وما زاد الطين بلّة، كما يُقال، هو انصراف العالم كلّه إلى إحصاء خسائره من الحرب الكونية الدائرة الآن، والحال هي على نحو ما وصفته العرب في مأثور الكلام: "انجُ سعد فقد هلك سعيد".

انقسام فلسطيني حوله

الفلسطينيون منقسمون حول الرجل، فأنصاره يتعاملون معه كما لو أنّه سيعيش أبداً، وخصومه يتعاملون معه كما لو أنّه سيموت غداً. وفي إسرائيل مَن معه يريدونه قويّاً بحدود الوقوف في وجه حماس من دون إعطائه وقوداً كافياً كي تواصل عربته السلمية سيرها ولو بقدر ضئيل من الفاعليّة والإقناع.

وفي أمريكا، العرّاب الأكبر، ليس متاحاً للدولة العظمى أكثر من التنقيط في حلقه والإحجام عن تقديم الحدّ الأدنى من متطلّباته السياسية.

في فترة ما وعلى الرغم من ضعفها كانت أوروبا ملاذاً، لكنّها الآن لم تعُد كذلك، وربّما فراغها صار عبئاً.